الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر وولاية ابنه الأمير أبي حفص: بينما الناس في غفلة من الدهر وظل ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمة وافية من العدل إذيع بالسرف وتكدر الشرق وتقلصت ظلال العز والأمن وتعطل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة فهب الناس من مضاجعهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى وبادر الأمير أبو حفص عمر من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره ودعوا المشيخة من الموحدين والموالي وطبقات الجند وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص ثم جلس من الغد جلوسا فخما على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته لعوائدها وقوانين ترتيبها تلقنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم وانفض المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته.وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيما بالحضرة قدمها رائدا منذ أشهر وأقام متهنا من الزيارة فلما سمع النعي فر من ليلته تقبض عليه أولاد منديل من الكعوب وردوه إلى الحضرة فاعتقل بها وقام أبوه محمد تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه يذكرون منافساته ومناقشة سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه واتصل ذلك منهم غصا لمكانه وأنذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما يذكر بعد والله تعالى أعلم..الخبر عن زحف الأمير أبي العباس ولي العهد من مكان إمارته بالجريد إلى الحضرة وما كان من مقتله ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد: كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العباس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فلما بلغه خبر مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه حقد على أهل الحضرة ما جاؤا به من نقض عهده ودعا العرب إلى مظاهرة أمره فأجابوه ونزعوا جميعا إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفا لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فآتاه طاعته وصار في جملته وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل وخرج غرة شعبان وارتحل عن تونس وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد أنذر منه بالهلكة واعتمل في أسباب النجاة حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجيا إلى المغرب وبلغ خبر مفرة إلى السلطان فأجفل واختل مصادفه وتحيز إلى باجة فتلوم بها وتخلف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله.ثم دخل إلى قصره لسبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص في ثامنها فاقتحم عليه البلد لضاغنة كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه نساءهم وطروقه منازلهم أيام جنون الشباب وقضاء لذاته في مرباه وفتك بأخيه الأمير أبي العباس ولسرعان ما نصب رأسه على القناة وداست شلوه هنالك سنابك العسكر وأصبح آية للمعتبرين وثارت العامة بمن كان بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل وتلوا كثيرا منهم إلى السلطان فاعتقلهم وقتل أبا الهون بن حمزة بن عمر بن بينهم وتقبض على أخويه خالد وعزوز فأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابتها أبا العباس أحمد بن علي بن زين من طبقة الكتاب وكان كاتبا للضحشى الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير واتصل السلطان أبو بكر لأول ملكه بالحضرة فأسف علي بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه.ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب ونزل على السلطان ابن سعيد فأجمل نزله ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشردا أيام السلطان كلها واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمدا وكانت له به وصلة فلما استوسق له الملك بعد مفر أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه وولى أباه أبا العباس هذا على حجابته وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجده المعروف بالسنان واستخلص لنجواه وسره كاتبه أبا عبد الله محمد بن الفضل ابن نوار من طبقة الفقهاء والقضاة ومن أهل البيوت النابهة بتونس كان له بها سلف مذكور واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتبا لولده وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك يد ومزيد عناية عنده ولما استبد بأمره كان هو مستبدا بشواره وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم..الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على إفريقية ومهلك الأمير أبي حفص وانتقال الأبناء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب وما تخلل ذلك من الأحداث: كان السلطان أبو الحسن يحدث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك أفريقية ويتربص بالسلطان أبي بكر ويسر له حسدا في ارتقاء فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثه بالقدوم عليها وجدد له الجوار فتنبهت لذلك عزائمه ثم وصل الخبر بمهلك ولي العهد وأخويه وخبر الواقعة فأحفظه لذلك بما كان من رضاه بعهده وخطه بالوفاق على ذلك بيده في سجله وذلك أن حاجب الأمير أبي العباس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن وسأل منه إمضاء لمولاه وكتب ذلك بخطه في سجله فخطه بيمينه وأحكم له عقده فلما بلغه مهلك ولي العهد تعلل بأن النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو أفريقية ومن بها فعسكر بظاهر تلمسان وفرق الأعطيات وأزاح العلل ثم رحل في صفر من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة يجر الدنيا بما حملت وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بأفريقية ورجالات الكعوب أخاهم خالدا يستصرخه لثأر أخيهم أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم ونزع إليهم أيضا أهل القاصية من أفريقية بطاعتهم فجاؤا في وفد واحد مع ابن مكي صاحب قابس وابن يملول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة فلقوه بوهران وآتوه بيعتهم رغبة ورهبة وأدوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس ولم يتخلف عنهم إلا من بعد داره ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني ومعه مشيخة الموحدين الزواودة وكبيرهم يعقوب بن علي فلقيه بنو حسن من أعمال بجاية فأوسع الكل حبا وتكرمة وأسنى الصلات والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياوي من طبقة وزرائه وأغذ السير إلى بجاية فلما أطلت عساكره عليها توافر أهلها في الامتناع ثم إنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا فآتاه طاعته وصرفه إلى المغرب مع إخوانه وأنزله ببلد ندرومة وأقطع له الكفاية من جبايتها وبعث على جباية عماله وخلفائه وسار إلى قسنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد وآتوه طاعتهم وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها وأنزل بقسنطينة خلفاء وعماله وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه وأصارهم في جملته حتى صرفهم إلى المغرب من الحضرة من بعد ذلك ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمرو مشايخ قومهم الكعوب فأخبروه باجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل واستحثوه باعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر وسرح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه وسرح عسكرا آخر إلى تونس لنظر يحيى بن سليمان من بني عسكر ومعه أبو العباس بن مكي وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس وصبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء ثم انفضوا وكباب لأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء اليرابيع وانجلت الغيابات عنه وعن مولاه ظافر راجلين فتقبض عليهما وأوثقهما قائد الكتائب بيده حتى إذا جن الليل وتوقع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما وبعث برؤسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة.وخلص الفل من الواقعة إلى قابس فتقبض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى من رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان فأما ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطعهم من خلاف واعتقل الباقي وسيقت العساكر إلى تونس ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادي الآخرة من سنته وخفت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد وانقرض أمر الموحدين إلا أذيالا في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهدية وتطوف على المعالم التي بها ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء في ساحتها وقفل إلى تونس فدخلها آخر شعبان والله تعالى أعلم.
|